يقوم أكراد سورية بدفع الثمن الباهظ لخيانة جديدة، لكن، وبكلّ تأكيد، فإنّ قوّات حزب العمّال الكردستاني “بي.كي.كي” وزعيمها “جميل بايق” هم الذين ضحّوا بهم لمصلحة طموحاتهم الإقليميّة المجنونة. تجدر الإشارة، علاوةً على ذلك، أنّ حزب العمّال الكردستاني قد بنى وجوده في سورية بشراكةٍ مع نظام الأسد، والذي تُنكر أيديولوجيّته “القوميّة العربيّة” الواقع أو الوجود الكردي.
حزب العمّال الكردستاني “بي.كي.كي” ونظام الأسد
تأسّس حزب العمّال الكردستاني في عام 1978 على أرضيّةٍ ماركسيّة-لينينيّة، وفي عام 1984، أطلقت قوّات الحزب “حرب عصابات” انفصاليّة في تركيا. استقرّ زعيمه ومؤسّسه “عبد الله أوجلان” -والذي شكّل شخصه موضوعًا مذهلًا لعبادة الشخصيّة حتّى يومنا هذا- في مدينة دمشق تحت حماية الاستخبارات العسكريّة برئاسة “علي دوبا”. قامت دكتاتوريّة الأسد، مقابل ذلك الدعم، بإدراج حزب العمّال الكردستاني –مع مراكز الاحتجاز الخاصّة به- كقوّة رديفةٍ للتحكّم بالسكّان الأكراد السوريّين. استمرّت تلك الشراكة مدّة 14 عامًا، إلى اللحظة التي وجّهت فيها أنقرة إنذارًا أخيرًا إلى دمشق، مع توغّل دقيقٍ لعربات مصفّحة تركيّة في شمال سورية، الأمر الذي أدّى إلى طرد “أوجلان” في اتّجاه موسكو في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر 1998، بعد هروب معقّد لبضعة أشهر، قامت الاستخبارات التركيّة بخطف زعيم حزب العمّال الكردستاني في كينيا، في شهر شباط/فبراير 1999، قام بعدها بقليل “أوجلان” بالطلب من أنصاره المسلّحين ترك تركيا، ومن ثمّ احترام وقف إطلاق النار أحاديّ الجانب.
انقلب حزب العمّال الكردستاني، والذي خسر بسبب ما حدث مرافقه ومنشآته في سورية، ضدّ حافظ الأسد، والذي خلفه بشّار الأسد في عام 2000. وكما شارك، منذ ذلك الحين، إلى جانب تشكيلات كرديّة محض سوريّة، في “الربيع الكردي” والذي تمّ قمعه بقسوة في آذار/ مارس عام 2004. لكنّ بشار الأسد كان قد قرّر، ومنذ انطلاقة الانتفاضة الشعبيّة ضدّه في آذار/ مارس 2011، أن يشقّ صفوف المعارضة بلعبه ورقة الأكراد ضدّ العرب؛ حيث شجّع حزب العمّال الكردستاني على قمع وكسر الأحزاب الكرديّة السوريّة -وبهذه الطريقة تمّ اغتيال المعارض “مشعل تمّو” في تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 2011- كما قام نظام الأسد بالترخيص للفرع السوري من حزب العمّال الكردستاني، حزب الاتّحاد الديمقراطي، وسُمح لزعيمه “صالح مسلم” بالعودة من المنفى، وتمّ إطلاق سراح 600 من كوادره ومناضليه، كما تمّ، وبشكلٍ خاص، السماح لثلاثة آلاف مقاتل من حزب العمّال الكردستاني بالمرور من شمال غربي العراق إلى شمال شرقي سورية، ليتمكّنوا بتلك الطريقة من الهرب من ضغط حكومة إقليم كردستان المحليّة في أربيل.
نقطة تحوّل “كوباني”
حاولت حكومة إقليم كردستان في العراق، في تمّوز/يوليو من عام 2012، رعاية اتّفاق بين حزب العمّال الكردستاني/حزب الاتّحاد الديمقراطي من جهة، وبين المجلس الوطني الكردي، والذي يشكّل جزءًا من المجلس الوطني السوري (الذي كان يرأسه حينئذ الكردي عبد الباسط سيدا)، من جهةٍ أخرى. لكن، عوضًا عن ذلك الاتّفاق مع المعارضة السوريّة، قرّر الجناح العسكري لحزب العمّال الكردستاني، والموجود في جبال قنديل في أقصى الشمال العراقي، ويقوده “جميل بايق”، أن يعزّز من تحالفه مع الأسد؛ فقاد ذلك إلى توليد الاحتقان ما بين حزب العمّال الكردستاني والنظام الديكتاتوري في الجزيرة (أي الجزء من الأراضي السوريّة المغروس بين العراق وتركيا) من جهة، وفي جبل الأكراد حوالي عفرين، في الشمال الغربيّ من حلب، من جهةٍ أخرى؛ حيث استُبدلت بصور الأسد صور أوجلان، كما بدأت الشرطة العسكريّة التابعة للنظام بالعمل بشكلٍ سرّي، من دون أن تتراجع، أمّا حزب العمّال الكردستاني، فقد قام، ومن دون رحمة، بملاحقة ومطاردة جميع منافسيه من المواطنين الأكراد.
هنالك توتّرات حقيقيّة، في داخل حزب العمّال الكردستانيّ، بين مناصري أوجلان، والذين بدؤوا بمفاوضات سلام مع أنقرة في خريف عام 2012، وبين «الصقور» المجتمعة حول بايق، والمقتنعين بالطابع الضروري والحتمي لاستئناف الأعمال العدائيّة في تركيا. تمّ انتخاب بايق رسميًّا على رأس الإدارة السياسيّة لحزب العمّال الكردستاني، وقام بعدها بتنصيب أحد أقاربه، وهو سوريّ الأصل، رئيسًا للذراع العسكري للحزب. وكما عيّن بايق نفسه، في لقاء أجراه مع صحيفة اللوموند في آب/ أغسطس 2013، “محاميًا” لـ “دولة كرديّة سوريّة مستقلّة”، تكون مقدّمةً لإنشاء كردستان مستقلّة، يكون مركزها في تركيا. وقد دفع أنصار بايق “الظاهر في الصورة في الأسفل” إلى الإعلان عن “روجافا” في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2013، والتي تعدّ بمنزلة “كردستان الغربيّة” فوق الأراضي السوريّة، تحت السيطرة المشتركة لكلّ من حزب العمّال الكردستاني ونظام الأسد.
تلت سيطرة داعش، والمسمّاة “الدولة الإسلاميّة”، على الموصل، في شهر حزيران/ يونيو 2014، حملة تطهيرٍ بحقّ اليزيديّين، تألّق بعدها مقاتلو حزب العمّال الكردستاني في العراق بعمليّةٍ شجاعةٍ كسرت حصار الجهاديّين لآخر ملاذ لليزيديّن، في جبل سنجار. ذهل ذلك الإنجاز البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزيّة “سي.آي.إي”، والذين كانوا خائبي الأمل من ضعف القدرة القتاليّة للبشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان في العراق؛ الأمر الذي دفع باتّجاه عقد تعاون، سيضيق بشكلٍ متزايد، بين القوّات الخاصّة الأميركيّة وحزب العمّال الكردستاني، وذلك على الرّغم من معارضة أنقرة. يذكّرنا هذا التعاون بالدعم الكبير الذي قدّمته واشنطن في عام 1999 لجيش تحرير كوسوفو، والذي كان أيضًا ذا اتّجاه ماركسي-لينيني، وكان ذلك على حساب المعارضة الكوسوفيّة المعتدلة، والتي تمّ الحكم على فعاليّتها بالقليلة جدًّا.
أضحى رهان الولايات المتّحدة الأميركيّة على حزب العمّال الكردستاني واضحًا خلال معركة كوباني، بين شهري أيلول/ سبتمبر 2014 وكانون الثاني/ يناير 2015، مع تقديمها دعمًا جويًّا، منقطع النظير، لمناصري أوجلان، وذلك بهدف استعادة السيطرة على تلك المدينة الحدوديّة مع تركيا من داعش. لعبت إدارة حزب العمّال الكردستاني في العراق على وتر المشاعر الجيّاشة التي أثارتها بطولات وتضحيات معركة كوباني، كان ذلك بهدف تحريك أكراد تركيا ضدّ حكومة أنقرة. لم يعد بايق يخفي، منذ ذلك الحين، من موقعه في جبال قنديل، رغبته في إعادة إطلاق النضال المسلّح في تركيا، وذلك على الرغم من كونه ملزمًا بترتيب «عمليّة سلام» يكون أوجلان موافقًا عليها من سجنه. من المثير للسخرية أن يتم استغلال مصير كوباني بين يدي الذراع الحديدي الداخلي لحزب العمّال الكردستاني، أمّا بالنسبة إلى مناصري الحزب، فهم، في المقابل، متّفقون جميعهم على فرض رؤيتهم لـ “إعادة إعمار” كوباني على السكّان العائدين إلى حقول الدمار، أو مدينة كوباني “المحرّرة”.
سراب روجافا
ترافق استئناف النزاع بين حزب العمّال الكردستاني والحكومة التركيّة، في صيف عام 2015، بتوسّع “روجافا” على طول الحدود التركيّة السوريّة، تمّ هذا التقدّم، وبالتأكيد، على حساب الأراضي التابعة لداعش، ومع دعم مختلف الأشكال من الولايات المتّحدة الأميركيّة، لكنّ ذلك التوسّع قاد إلى عمليّات “تطهير عرقي” حقيقيّة على حساب السكّان غير الأكراد. بتوسيع سيطرته على الأراضي، قام حزب العمّال الكردستاني بوضع الأغلبية من السكّان، والتي كانت في معظمها كرديّة في الأصل، تحت سيطرتها، هذا من دون احتساب الأصوات المعارضة، من بين أكراد سورية أنفسهم، والتي تمّ خنقها وقمعها بشكلٍ صريح ومن دون أيّ اعتبار.
في كانون الأوّل/ ديسمبر 2015، وفي مقابلة جديدة مع جريدة “اللوموند”، صرّح بايق، ومن دون استياءٍ مفرط، أنّه “قد تمّ إسكات أوجلان”، وأكّد أنّ “الحرب الأهليّة التي تدمّر تركيا ستتفاقم”. وبرأيه، أيضًا “أنّ التطوّرات في كلٍّ من تركيا والعراق وسورية تكشف عن النزاع نفسه”. يتشكّل ذراعه الحربي في سورية من “قوّات سورية الديمقراطيّة”، وتُعدّ تلك التسمية تلطيفًا لميليشيا تتحكّم بها “التشكيلات العسكريّة الكرديّة السوريّة”، والتي تعدّ بذاتها “انبعاثًا لحزب العمّال الكردستاني”، وذلك حسب مقالة نُشرها مؤخّرًا مراسل صحيفة اللوموند هناك من على أرض الميدان. إنّ هدف بايق المؤكّد هو إتمام السيطرة على أراضٍ متّصلة على الحدود الجنوبيّة لتركيا، وذلك لتعزيز حرب العصابات في تركيّا نفسها، والذي يُعدّ هدفه الإستراتيجيّ.
يجب علينا قراءة التطوّرات الحاصلة في الأشهر الأخيرة من ذلك المنظور؛ فقوّات سورية الديمقراطيّة، التابعة لحزب العمّال الكردستاني، وبدلًا من أن تنطلق لمهاجمة مدينة الرقّة، والتي تعدّ “عاصمة” داعش في سورية، التفّت وذهبت في اتّجاه منبج، والتي تحرّرت في آب/ أغسطس 2016 بثمنٍ باهظٍ دفعه السكّان المحلّيّون؛ وإلى الغرب من ذلك، شارك أتباع بايق في حصار نظام الأسد للأحياء الثائرة في مدينة حلب، الحصار الذي تمّ كسره بهجومٍ مضادٍّ للثوار، حصل ذلك أيضًا في آب/ أغسطس. كنتُ قد اقترحتُ، أيضًا، من على هذه المدوّنة، في أيّار/ مايو، أنّ حزب العمّال الكردستاني يقوم بإنهاك قواه بمشاركته الفاعلة في الكفاح ضدّ الجهاديّين، وأنّ نواياه التوسعيّة قد قلبت شركاءه القدامى ضدّه، كموسكو وحلفائه الجدد في واشنطن، واللذين أعطيا، كلاهما، موافقتهما على الهجوم الذي شنّته تركيا وحلفاؤها السوريّون بهدف دفع أتباع حزب العمّال الكردستاني شرق نهر الفرات.
تظهر الخريطة أدناه، والتي تمّ رسمها بوساطة معهد واشنطن لدراسات الحرب بتاريخ 30 آب/ أغسطس 2016، مواقع كلٍّ من قوّات سورية الديمقراطيّة وحزب العمّال الكردستاني باللون الأصفر، ومواقع تركيّا وحلفائها باللون البنفسجي، ومواقع الثوار السوريّين باللون الأخضر. أمّا اللون الرمادي فيمثّل مواقع جهاديّي داعش/الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، واللون الأحمر لمواقع نظام الأسد.
في الخاتمة، أودّ القول إنّه من المُختزل، والخطأ، عدّ “الأكراد” مناصرين حصريّين لحزب العمّال الكردستاني. في المقابل، من المؤكّد أنه قد تمّت خيانة أكراد سورية من جانب بايق والإدراة العسكريّة لحزب العمّال الكردستاني، والذين قاموا، انطلاقًا من مقرّهم الرئيس في العراق، بالتقليل من أهميّة جبهة سورية، والتي عدّوها ثانويّةً، لمصلحة أولويّتهم المطلقة المكرّسة للحرب ضدّ الدولة التركيّة.
الكاتب: جان بيير فيليو