ثمة سوء فهم وتفاهم كبيرين بين دور المفكر ووظيفته، ومهمة الناشط ورسالته، يجعل التغيير المطلوب في المجتمعات العربية المعاصرة صعبا. ذلك أن التغيير اليوم يتطلب فهم البنية الاجتماعية المتطورة للمجتمع الحديث، ويتطلب بشكل خاص فهما للواقع الإنساني المتنوع والمتداخل، ودور الثقافة ومرتكزاتها القيمية المعيارية في صناعة المجتمع الحيوي والفاعل في سياقنا المعاصر. وهذا يحتاج إلي خطاب معرفي متطور لم يألفه المجتمع العربي الذي لا يزال يتغذى على جهود الفكر الإسلامي التاريخي أو الفكر الغربي المعاصر، دون أن يتمكن من تجاوز التناقضات الكثيرة بين الموروث والمستعار. ولأن من أعراض المجتمعات التي تحمل على كواهلها ثقل التراجع الحضاري والثقافي أنها لا تستأنس كثيرا بالقراءة والتأمل والنظر المنهجي، فإننا نسمع باستمرار انتقادات لصعوبة لغة المفكر وابتعاده عن مشاكل المجتمع الآنية، وتفريطه في تقديم حلول سهلة وسريعة لمشكلات المجتمعات العربية المعاصرة.ليس الغاية من هذه المقالة إنكار الحاجة إلى تقديم حلول سريعة للمشكلات الكثيرة والمتراكمة التي تواجهها المجتمعات العربية، فهذه ضرورية بالتأكيد. الأمر الذي أسعى إلى توضيحه في هذه العجالة أن المفكر لا يرغب بالضرورة أن يختار مفردات بعيدة عن لغة الحياة اليومية كما يعتقد البعض، وأن المفردات الجديدة التي يستخدمها المفكر في خطابه تستدعيها الحاجة إلي فهم تطور الحياة الاجتماعية عبر التاريخ، وتحديد البنى الاجتماعية والسياسية وعلاقتها بالثقافة الموروثة والتغييرات المطلوبة. ذلك أن فهم الواقع الانساني المتنوع والمتداخل، والذي يتأثر بعوامل عديدة ومتشابكة، يتطلب درجة من التجريد المتصاعد على عدة مستويات. فالتجريد (أي تصنيف الظواهر الاجتماعية ضمن مفاهيم، وتجريد المفاهيم الأولية ضمن مفاهيم أعلى) يسمح لنا بتوصيف مظاهر الحياة المتعددة ضمن عدد اقل من المفاهيم، وتصنيف المفاهيم المجردة هذه تحت مجموعة اقل من المفاهيم أكثر تجريدا واقل عددا. تصوير الواقع الانساني بعدد محدود من المفاهيم عالية التجريد يمكن المفكر من الاحاطة بهذا الواقع، ويسمح له في البحث عن حلول للمشكلات التي يواجهها المجتمع، ورسم استراتيجيات للتعامل الناجع معها، تماما كما تمكن نظريات الرياضيات والفيزياء عالم الطبيعة من فهمها وتحديد طرائق توظيفها. طبعا هذا يبعد الانسان اللصيق بالحياة والذي يملأ وقته بالعمل لصنع الادوات الضرورية لبناء المساكن وتعبيد الطرق وزراعة المحصولات الغذائية عن دلالات المفاهيم المجردة، ويجعله غير قادر على ربطها بخبرته اليومية المباشرة.هنا تبرز اهمية المثقف الذي يقوم بدراسة النظريات وبذل الجهد لفهمها وتحويلها الى مشاريع عملية ترتقي بالحياة الانسانية المشتركة. بهذا المعني فإن المثقف، الذي يمثله ناشطون في مختلف دوائر المجتمع مثل الناشط الاجتماعي والحقوقي والسياسي، هو الوسيط بين الفكرة المجردة وتمظهرها عمليا في العلاقات والمؤسسات المجتمعية. دور المثقف في علاقته بالمفكر يشبه إلى حد كبير دور المهندس في علاقته بعالم الفيزياء والرياضيات. فالمهندس يترجم نظريات الرياضيات والفيزياء الى مشاريع بناء مساكن ومستشفيات وقطارات وطائرات وحواسيب، ويوظف في مشروعه آلاف من الاشخاص الذين يستعصي عليهم فهم المعادلات الرياضية والحسابات الهندسية، ولكنهم يملكون مهارات تتعلق بالصنعة التي اتقنوها، ويوفر لهم بالتالي القدرة على تشكيل الأشياء وفق رؤية نظرية سابقة ومدروسة. بالمثل، نحن بحاجة الى المثقف الذي يجتهد في فهم النظريات الكلامية والفلسفية والنفسية والاجتماعية وتحويلها الى مؤسسات ومنظمات اجتماعية واقتصادية وتربوية وسياسية تحمل مشاريع وخطط تهدف إلى رفع مستوى الانسان تنظيميا وإداريا وتربويا، وترتقي بالأداء الفردي والفاعلية الجمعية، وتسمح لكل فرد من أفراد المجتمع بتوظيف قدراته ومهاراته لتتكامل مع قدرات ومهارات الأخرين وفق رؤية مشتركة.التحدي الذي واجه، ولا يزال يواجه، مجتمعات الربيع العربي التي حرم أبناؤها طويلا من ابجديات العمل الجمعي المنظم، والمنقسمين بين من يقلد الاجداد ومن يقلد المجتمعات الحديثة الفاعلة، هو تطوير رؤية تنبع من قيمهم الذاتية وتتناسب مع طبيعة المجتمعات المعاصرة التي يتحركون فيها. نعم التقليد هو مشكلة العصر عند العرب، والتقليد هو تحرك دون فهم عميق لأسباب الحركات التي يقوم بها من يقلد. التقليد دون فهم الاساس الذي قام عليها القديم الذاتي، والأسس التي يرتكز عليها الحديث المستعار، يحيل الحركات والمؤسسات إلى شكل بلا معنى وجسد بلا روح، وإلى محاكاة دون تأثير.باختصار، لن نجد مخرجا من حالة التخبط والعيش في الزمن الضائع في المجتمعات العربية دون الانطلاق من رؤية نظرية تتفهم بنية المجتمع المعاصر وتسعى لترجمة القيم الرسالية (أي قيم الإنسان العليا) الى حركة مجتمعية وفعل سياسي ناضج. فالنظر قبل الفعل والرأي قبل الشجاعة. من المهم أن ندرك أن صعوبة الخطاب الفكري نابع من تعقيد بنية الحياة الانسانية على المستوى النفسي والاجتماعي. هذا يمنع وصول المفكر الى الانسان المنشغل بتفاصيل الحياة وغير القادر على تكريس جزء من وقته للقراءة المتعمقة والتفكير والتأمل والمأسسة، وهو يحتاج الى نخبة من المثقفين الذين يترجمون الكلام النظري الى مؤسسات مجتمعية وتيار شعبي. العمل المطلوب عمل تكاملي في الرؤية والمنهج وتفاضلي في الدور والجهد. ثمة حاجة الى تكامل المفكر والمثقف وصاحب المهارات الاجتماعية العملية، يحاكي تكامل عالم الفيزياء والمهندس وصاحب المهارات الحرفية، لتغيير واقعنا المتردي. فالجميع مهم في حركة تطوير المجتمع، ولكل الدور والمساهمة التي تكمل مساهمات أبناء الوطن الواحد.