ننحدر من حقل ثقافي وروحي يؤمن أن الكلمة فعل، فنحن أبناء مقولة ” في البدء كان الكلمة”، لكن هذه المقولة تختص بالكائن الكلي القدرة والكلي المعرفة والذي لا يحتاج للفعل سوى أن يقول “كن فيكون” ، المشكلة تحدث عندما يتم استعارة هذه المقولة إلى حيز الفعل الإنساني، فتختلط الأشياء عند من يدعي أنه فاعل في الواقع، بحيث تنوب كلمته عن أي فعل حقيقي ويظن أن ما هو موجود بالقوة موجود بالفعل، هذه الحالة من التأله تلبست تقريبا أغلب زعماء الهزيمة المستمرة في منطقتنا، فيكفي الزعيم الأوحد بذاته أن يسمي شعبه “شعبي العظيم” حتى يلغي واقع تخلفه وفقره وعوزه الاقتصادي والمعرفي والاجتماعي، أو يكفي أن يسمي هزيمة عسكرية مني بها جيشه، بيوم النصر العظيم حتى يمحي آثار هذه الهزيمة بكل تداعياتها ، هذا التأله لم يقف عند حد السلطة وزعمائها الخالدين بتعريفهم لذاتهم، بل امتد في أحيان كثيرة إلى معارضيهم، حتى بات المعارضون يمارسون تألها ضد تأله من نوع آخر فالزعيم والمعارض المتألهين ينطلقان من رفض وجود أي آخر يقابلهما وكأنهما يتلبسان الآية الكريمة التي تقول :” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” ، هنا يصبح الوجود الذاتي للزعيم والمعارض وجودا كليا ومطلقا لا يقبل أي وجود آخر، أذكر عبارة قالها الدكتور محمد عابد الجابري في محاضرة عام 1992 في دار الندوة في بيروت حيث قال: ” إننا نحتاج للشرك في السياسة بقدر حاجتنا للتوحيد في الدين” مقولة الجابري على بساطتها ربما تختزل آلافا من الصفحات إن لم أقل تختزل نسقا كاملا من التفكير الذي نمارسه والذي تحول إلى بارادايم بائس وغير منتج، وحاجتنا للشرك في السياسة أي أن نكون قادرين على رؤية أن الحاكم ليس فردا مطلقا وكلمة الحاكم هنا تشمل أي حاكم، وأيضا حاجتنا للشرك تعني أن نكون قادرين على قبول آراء سياسية مختلفة عن رأينا بل تشكل نقيضا لها من دون أن نشعر بأن هناك من يزاحمنا على كرسي الألوهية.
للأسف لم نستطع أن نصوغ منهج تفكير واضح حول مفهوم الدولة في العقل العربي بل تمحور كل تفكيرنا حول السلطان بما هو فرد مطلق يعطي ويمنح بلا ضابط سوى معرفته بذاته ومعرفته بالضرورة التي تلجئه للفعل عبر الكلمة التي ينطقها.
هذا التهافت المعرفي والقيمي ربما يتجلى بشكل فاقع فيما نسميه اصطلاحا بالمعارضين السوريين، والمفارقة أن كثرة المعارضين السوريين تعطي نقيضها في غياب معارضة سورية، وكأن العدد الكمي للمعارضين غير قادر بطبيعته على التحول لكيف ينتج معارضة لها برنامج ومقولات واضحة في حدود تعريفها لنفسها وتعريفها لشرطها السياسي الذي تعمل من خلاله.
كثرة المعارضين الأفراد هي تعبير عن تلبس حالة الفردانية والتأله التي تحدثنا عنها سالفا، ويصبح كل معارض فرد مؤسسة قائمة بحد ذاتها، ويظن أن قوله يكفي لدخوله عالم الفعل السياسي حيث أن تغيير الأوضاع يصبح معلقا بما يقول وليس بما يفعل.
بل إن تعريف السياسي يصبح تعريفا شاذا، حيث أنه يكفي أن يقول الشخص مجموعة من الكلمات ليتحول بقدرة قادر إلى سياسي، هذا التعريف يسقط مسألتين الأولى أن السياسي لا يمكن إنتاجه إلا عبر صيغة تمثيلية يقوم من خلالها بتمثيل مصالح كتلة مجتمعية أيا كان تعريف هذه الكتلة، وهذه الصيغة التمثيلية هي نوع من العقد يأتي إما عن طريق صندوق الانتخاب وهو العقد الصريح حيث تفوض الكتلة المجتمعية شخصا أو حزبا بتمثيل مصالحها في آليات اتخاذ القرار في الدولة والسلطة، أو أن يكون العقد ضمنيا وهو عندما يكون السياسي قادرا على قيادة كتلة مجتمعية ترى فيه معبرا عن طموحها وعن مصالحها، وهذا يحتاج بالضرورة إلى أن يكون قائدا بالفعل الإنساني لا بالفعل الإلهي الذي هو الكلمة كما قلنا، المسألة الثانية التي تنتج السياسي هو أن ينبت في وسط سياسي يتشارك فيه مع آخرين بحركة الفعل وليس باتجاهه أي أن يقبل بأن يكون هناك فاعلين سياسيين آخرين مماثلين له ويتصارع معهم على أساس مصالح الكتلة المجتمعية التي يمثلها وليس على أساس مصالحه ورؤيته الفردية.
في أغلب ما أقرأ وأسمع من تسجيلات لبعض المعارضين الأفراد ” والتسجيل الصوتي هنا إمعان في التأله” فالله وحده فقط هو القادر على نطق ” الكن” التي تتحول لفعل كينونة متعين في الواقع، قلت أن أغلب ما أسمعه من تسجيلات وكتابات لهؤلاء يسقط أول شرط من شروط السياسة وهي تمثيل الكتلة المجتمعية، لأن الله وحده غني عن البشر ولا يحتاج لإشراكهم في قدرته على الفعل بل هم مجرد مادة الفعل الإلهي وموضوعه، وهؤلاء المعارضين بتألههم يفعلون نفس الشيء، بحيث تصبح الكتلة المجتمعية هي مجرد مادة فعلهم القائم على الكلمة التي ينطقونها، والأغرب من ذلك أن هذه الكلمة نفسها تتمحور حول قلت لوزير الخارجية الفلاني ، وقلت للدولة العلانية، وقلت لرئيس المخابرات العلتاني، ولم أسمع على الإطلاق من أحدهم أنه قال للناس الذين يدعي تمثيلهم أو استطاع أن يجمع منهم مائة شخص وراءه، بل إن بعضهم تلبسته حالة الزعيم الإله المانح والمانع، حتى أن منهم من أعطى أرضا سورية لدولة أخرى من دون أن يشعر بأن هناك بشرا وكتلة مجتمعية تملك هذه الأرض، ففعل السياسي المتأله منسلخ عن الناس ولا يحتاج للناس أصلا في فعله لأنه عاجز عن رؤيتهم من عليائه الموهومة والتي باتت أشبه بحالة مرضية مزمنة، هذا التأله هو هدم للسياسة ،لأن السياسة فعل بشري يقوم على الارتباط المصلحي بين أفراد وفرد أو حزب أو حركة لتمثيل هؤلاء الأفراد وليست تمائم ومقولات فعل كينونة تصدر عن الكائن الكلي القدرة، لذلك عجز المعارضون عن تشكيل أي حركة سياسية قادرة على الفعل السياسي وتستند لكتلة مجتمعية حقيقية أعطتهم تفويضا ضمنيا أو صريحا قبل أن يدّعوا أنهم سياسيون يمارسون السياسة، هذا الغياب للحركة المعارضة هو المقابل لكثرة المعارضين الأفراد المتألهين وهو المحصلة الطبيعية لوجود هذا الكم الكبير من المرضى الذين يحسبون أنفسهم آلهة، فالله وحده لا شريك له، وهؤلاء أيضا باتوا يظنون أنهم يتميزون بالوحدانية التي لا يشركهم فيها أحد.
محمد صبرا
24\5\2020