عبد الله تركماني
وبالرغم من أنّ المجال السياسي بقي مقيّداً تقييداً شديداً عبر أجهزة أمنية قمعية، فإنّ المشهد الاجتماعي السوري كان أمام ولادة جيل جديد، أخذ يتمتع بأدوات عولمية باتت مدهشة لذهنية التواصل، وبدأ يبدي تململاً واسعاً من الآفاق القائمة في سوق العمل التي لم تعد قادرة على استيعابه، وحيث الثروة والفساد تدار من قبل شبكات المحسوبية.
وعلى الرغم من الترميمات التي انتهجها النظام لإعادة إحياء القطاع الخاص، فإنها برأي هذا الجيل لم تكن تعني استرجاع شبكات رأسمالية مستقلة وبالتالي انفتاح آفاق اقتصادية – اجتماعية بديلة، بل غالباً ما نظر إلى هذه السياسات من زاوية أنّ جوهرها قائم على خلق طبقات تجارية جديدة طفيلية، وبصفتها هذه تكون تابعة لها في علاقات غالباً ما تكون متكافلة مع قيام كوادر الدولة من ذوي السطوة بدور الرعاة إن لم يكن الشركاء. وباتجاه موازٍ كان هذا الجيل لا يتبع المؤسسات الدينية التقليدية، بل يتعامل معها بعدم اكتراث وأحياناً بازدراء، كما أنّ رؤيته لم تعد امتداداً لولاءات وثقافات تقليدية بل نتيجة أنساق ثقافية ودينية حديثة تحت تأثير شبكات التواصل الاجتماعي التي أخذت تكسبهم قنوات جديدة للتحريض والتعبئة السياسية. على هذه الأرضية، وفي غياب أية قيادة سياسية وثقافية قادرة انفجر المجتمع في ثورة من القعر، فاجأت الجميع ببطولتها وعزمها بل وفاجأتهم بعفويتها وعاميتها.
فاستكملت الثورة الإطاحة بالقديم لكن ولادة الجديد لا تزال متعثرة بشكل مقلق. وبذلك فنحن أمام عقد اجتماعي ينهار، من ضمن ما يتطلبه انهيار التحالف بين رجال الأعمال في المدن مع السلطة وبالتالي انهيار أساس شرعية هذا النمط.
رابعًا – الثورة والجمهورية الثالثة
لئن تمكّن نظام البعث من تأسيس جزء من شرعيته على عوامل فوق وطنية، فلقد تمكّن من تفتيت آليات وبنى الولاء الوطني بشكل يولد حالياً حالة من الفراغ وافتقاد الزعامة بشكل خطير. ومع دخول الصدام مرحلة الاستعصاء الراهنة ووصولنا إلى مرحلة توزان الضعف، يستمر المجتمع السوري في تقديم التضحيات الجسيمة، وليصبح التحدي الأكبر الذي سيواجه الجمهورية الثالثة هو كيفية نقل السلطة ومفاتيحها إلى شرعية دستورية ديمقراطية.
لقد عبّرت الثورة عن رغبة أصيلة لدى أوسع قوى الشعب في إقامة جمهورية سورية ثالثة، والانتقال بالبلاد من عهد الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية القائمة على الحكم المدني الديمقراطي. لكنّ الإشكال أنه في غياب أي مستوى مقبول من القيادة السياسية واللوجستية، بل وغياب الحد الأدنى المقبول للقيادة العسكرية، يصبح السؤال الأساسي: كيف يمكن إعادة توليد عقد اجتماعي سياسي جديد يكفل تحويل حالة الفوضى الراهنة إلى عملية بناء لشرعية لا تقوم على تعسف منطق الصراع بل على توافقات منطق العقد الوطني. فما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وهل مازال ثمة أمل يرجى من استمرار هذه الجمهورية؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين الجدد؟
1- لا تتطور المجتمعات إلا في كنف الدولة (39)لا سبيل للجماعات لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظِّم كيانها الداخلي إلا بأن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي.
وتتفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكوِّنها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات. وفي سياق الدولة لا تكتمل السيادة الوطنية من دون تمتُّع كافة المواطنين بالحريات غير المنقوصة: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية. أي لابد أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى مجرد آلية لانتخابات شكلية، وبالتالي توظف لخدمة الفئات الحاكمة. كما أنّ ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم، من خلال تطلعها للحكم مستقبلاً، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.وهكذا، فإنّ السيادة الوطنية تتحدد بمدى احترام سلطة الدولة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد بأنّ الدولة هي الحصن لحمايته، وهي بناء مستقبل زاهٍ لأبناء الوطن كلهم دون استثناء، وما من عوائق دون ترقية الاندماج الوطني، بما يقتضيه من جهود فكرية وسياسية واجتماعية وقانونية كبيرة. على أنّ ترسيخ قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالمية، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات، وتشكُّل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون.
هذه الدولة، التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، وترسيخ القيم الإنسانية لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.والنتيجة إنّ قابلية الدولة لاستعادة دورها التوحيدي في سورية لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني، بمختلف فئاته وفعالياته، ليمارس دوره في حماية الوحدة والتلاحم.
2- الانتقال من الثورة إلى الدولةعلى الرغم مما مرت به الثورة السورية من أطوار وكل ما أفرزته من هيئات وتجمعات تولت إدارتها، باختلاف الآليات والأدوات والشخوص وسطوة متغيرات الظرف الإقليمي والدولي، إلا أنها إلى اليوم لم تستطع إنتاج البديل المؤسساتي لنظام الحكم القائم، والذي يعتبر الآلية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، والمتمثل اليوم بضرورة الانتقال من فكر الثورة إلى منطق الدولة والمبادرة لامتلاك وظائفها وممارساتها. وإن كان الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة يحتاج إلى مجموعة خطوات وآليات، فإنّ إيجاد رجالات دولة حقيقيين في مختلف المجالات، يعون أهمية وخطورة المرحلة وحجم التحديات والمسؤوليات التي ستفرزها، هو أساس هذا الانتقال والأرضية والحامل الأهم. وأثناء البحث والإعداد لتلك القيادات لابد من مراعاة مجموعة عوامل لا يمكن تجاوزها نتيجة خصوصية الوضع السوري، ولعل أبرزها (40):
أ – كف البحث عن القائد الرمز، والتوجه لبناء المؤسسات، التي تمثل التجربة الأقرب للثورة السورية والأكثر واقعية، وهي القادرة على إنتاج قادة والحفاظ على عامل الديمومة وقطع الطريق بوجه أي استئثار بالسلطة وإعادة إنتاج دكتاتوريات.
ب – إنّ إغفال مفهوم القائد الرمز لا يعني إنهاء مفهوم القيادة، والذي يؤمّن بالدرجة الأولى وحدة واتساق القرار.
ج – إنّ من أهم شروط ومواصفات أولئك القادة المرتقبين تشرّبهم وإيمانهم بالفكر المؤسساتي، وليس الفكر الوصولي السلطوي، ما يجعل معيار الكفاءة والأداء هو الأساس في اختيارهم.
د – لابدَّ أن تتمتع تلك القيادات بهامش حر دون أي قيود أيديولوجية، وذلك لقراءة الواقع والالتزام بمعطياته والاشتقاق منه. إنّ تحقيق الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة لا يعني أبدًا إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة.
3- في الوطنية السورية الجامعة (41)منذ بدء الثورة، ومع تصاعد العنف المحض الذي بدأته سلطة آل الأسد، باتت أغلب المكوّنات السورية تستشعر نفسها كجماعات وهويات عابرة للكيان، وتتخيل نفسها أقرب الى دول ومجتمعات خارج بلادها، أكثر مما تستشعر قرباً وتماهياً مع المكوّنات الوطنية ضمن الكيان السوري. مما أدى إلى تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة الانتماءات الفرعية، ما دون الدولة الوطنية الجامعة.
ولا شك أنّ سلطة آل الأسد كانت الرائدة في تحطيم الإطار الوطني للصراع، كما أنّ ظاهرة الأسلمة المتطرفة للثورة، خاصة مع وجود الجهاديين الأجانب، تركت آثاراً على انهيار الإطار الوطني تدريجياً. ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً، إذ لدينا من يعيشون زمناً أصولياً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن سلطة آل الأسد ” الأسد أو نحرق البلد “، ومن تنشدّ أنظارهم إلى الوطنية السورية الجامعة.ونرى أنّ خيار الوطنية الجامعة يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة تحديات المستقبل، إذ إنّ التفكير في المعطيات الراهنة يقتضي التأسيس لتصور جديد لهذه الوطنية، يقوم على النظر إلى المكوّنات السورية المختلفة كمكوّنات تأسيسية متساوية الحقوق والواجبات، ويؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، ويسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين.
4- في الحاجة إلى عقد اجتماعي جديدفي ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الأرحب. وبطبيعة الحال، ليس المدخل إلى ذلك مشروع ” الفدرالية الكردية ” في شمال سورية وشرقها، ومشروع ” سورية المفيدة ” في غربها.
مثل هذه المشاريع، لن تؤول، في ظل الأوضاع الراهنة، إلى قيام دولة فدرالية في سورية، بل سوف تنتهي – غالباً – إلى العصف بالكيان الوطني القائم، حيث كان لخرائط القتال المتغيرة، على مدى أكثر من تسعة أعوام، وخرائط المجازر والتغيير الديموغرافي، الدور الأساس في رسم الحدود، وفقاً للهُويات الطائفية والإثنية.وبعد انهيار الدولة الشمولية لا بدَّ من إعادة تأسيس نظام الولاء والطاعة بدءاً من القاعدة، وإعادة تأسيس قيم الديموقراطية بدءاً من مشاركة كل مواطن في تحديد القرارات المباشرة التي تمسه على الصعيد المحلي، بانتظار أن تولّد العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوى سياسية واجتماعية جامعة، تستطيع توليد مجتمعاً مدنياً قوياً وأحزاباً سياسية قوية وقيادات وزعامات، يمنحها المجتمع قدراً كافٍ من الثقة والسلطة. فما سقط في سورية هو قيم الشمولية الجامعة، وما يجب أن يرتفع فيها هو روح التوافق الطوعي، المستند إلى المصالح العملية للناس ولقيمهم الثقافية والوطنية المشتركة.
من خلال هذا التحليل لا يمكننا أن نتصور سورية دولة موحدة، إلا من خلال بناء دولة تتمتع فيها مختلف المحافظات والمناطق بقدر كبير جداً من اللامركزية الإدارية الموسّعة، على أساس جغرافي وليس قوميًا أو طائفيًا. بحيث يمكن التفكير لاحقاً في تعزيز طوعي للوحدة الوطنية السورية والبنية الوطنية الموحدة، من خلال الاندماج الطوعي لكل مكوناته. فلقد انتهى زمن الفرض والقمع والاستبداد العقائدي لكل الهويات الفرعية للمواطنة السورية.لذلك فإننا نعتقد أنّ شكل أي مخرج للأزمة يجب أن يتأسس – بالضرورة – على هذه الحقائق المؤسسة على الطوعية وتعدد الهويات والدولة اللامركزية الإدارية، ولابد من بنية وطنية سورية تستند إلى دولة تتمتع بقدر كبير من اللامركزية كأساس إداري، تتمكن فيها كل شرائح ومكونات الشعب من إعادة بناء هيكليتها الإدارية المحلية واقتصادها وأمنها وكل بنيتها على أساس محلي، لتنتسب طوعاً ومصلحياً للوطن السوري، ومن خلال تنميتها ونموها في الإطار الوطني.الهوامش(40) – ساشا العلو، إعادة إدارة الفكر الثوري بمنطق دولتي، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية – 22 تشرين الأول/أكتوبر 2015.