راتب شعبو
المطالبة باللامركزية (الإدارية أو السياسية) قاسم مشترك بين المجموعات السياسية المعارضة لنظام الأسد اليوم. يشير الحماس لهذا المطلب إلى وجود ربط بين المركزية والاستبداد في الذهن، إلى حد أن التطلع إلى اللامركزية يظهر في بعض الحالات وكأنه هدف بذاته أو هدف أولي أكثر أهمية من التطلع إلى الديموقراطية، كما يقول مثلاً عنوان مبادرة واسعة أطلقها معارضون سوريون لنظام الأسد في خريف 2019 وحملت عنوان (مبادرة من أجل جمهورية سورية اتحادية). كما هو واضح يبدو أن فكرة الاتحادية (تعبير عن اللامركزية السياسية) أبرز أو أكثر أولوية من فكرة الديموقراطية إلى حد إزاحتها من عنوان المبادرة، أو أن المبادرة تنطوي على فهم يقول إن “الاتحادية” تتضمن الديموقراطية بصورة تلقائية. والحال إنه لا يوجد ارتباط ضروري بين مفهوم اللامركزية ومفهوم الديموقراطية، فهما مفهومان مستقلان، أحدهما يتعلق بآلية إنتاج السلطة (الديموقراطية) والآخر يتعلق بآلية توزيع السلطة (اللامركزية). وحين تكون آلية إنتاج السلطة غير ديموقراطية فإن توزيعها، مهما يكن، لن يجعل منها ديموقراطية. يكفي أن نذكر أن اتحادية الدولة السوفييتية التي ضمت خمس عشرة جمهورية لكل منها رئيسها وعلمها .. الخ، لم تمنحها مضموناً ديموقراطياً. كما أن اللامركزية في روسيا اليوم، هي أقرب إلى الاستبداد من المركزية في فرنسا، علي سبيل المثال.ساد هذا الربط بين الاستبداد وشكل الدولة المركزية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، وانعكس في صياغة الدستور العراقي الدائم في 2005 وتضمن تبني الفيدرالية التي لم تطبق إلا في إقليم كردستان، ولم تنتج النظام السياسي الديموقراطي المأمول في العراق.يتضمن الكلام السابق التأكيد على أن اللامركزية ليست مرادفاً للديموقراطية، دون أن يتضمن تفضيلاً مبدئياً أو مجرداً للمركزية أو اللامركزية، أكانت إدارية أو سياسية، في شكل الدولة، إذ لا ينبغي اختيار شكل الدولة بمعزل عن السياق السياسي المحدد وعن انعكاسات الشكل المختار على البلد واحتمالات تطوره. الواقع أن تزايد الدعوة إلى اللامركزية في سورية وتهميش المطلب الديموقراطي إزاءها، ترافق مع تكرس انقسام واقعي في سورية، ونشوء سلطات أمر واقع جديدة في مقابل سلطة الأمر الواقع في دمشق. تلمست السلطات المستجدة “غير الديموقراطية” حاجتها إلى اللامركزية، لترسيم ذاتها والاحتفاظ بما اقتطعته من أرض وسلطات. بعد ذلك تصبح الديموقراطية لعبة مقدور عليها لمن يملك السلطة الفعلية. يركز منطق هذه السلطات، وهو المنطق الذي غزا المجال السياسي المعارض لنظام الأسد، على أن المركزية تكافئ نظام الأسد (وكأن هذا النظام أبدي فعلاً وأن كل ما يراد هو تخفيف سلطاته من خلال تخفيف مركزيته)، وهذا سوف يقود إلى استثمار الرفض الواسع لنظام الأسد في تحقيق قبول واسع للامركزية. هذا منطق ناجع في الحقيقة ولكن نجاعته (أي قدرته على تحقيق قبول واسع) لا تلغي أنه منطق فاسد، من حيث أنه يربط بين شكل الدولة المركزية والاستبداد، ونتيجة ذلك هو فتح باب جديد لتوزيع الاستبداد، أي لتكريس استبدادات جديدة (لا مركزية) تسيطر على “أقاليم”.تأمل الوضع السوري يبين أن الموضوع الذي يستدعي التفكير الضروري باللامركزية هو الموضوع الكردي، وهذا يحتاج إلى معالجة جدية ومسؤولة تضمن حقوق الكرد، غير أن هذه الضرورة لا تنسحب على كامل المناطق السورية أو على كامل “مكونات” الشعب السوري.كان المطلب الديموقراطي في موقع اللب من ثورة السوريين، فلا ينبغي حجب هذا المطلب وراء ستار اللامركزية من خلال تكريس تكافؤ باطل بين اللامركزية والديموقراطية. القوى التي تجد أن التطبيق الفعلي للمعايير الديموقراطية يهدد سيطرتها، تعمل على تبدية فكرة اللامركزية وجعل محور الصراع في سورية يدور حول هذه الفكرة. لم تكن المركزية هي الوجع الذي خرج السوريون إلى الشوارع لعلاجه، ولن تكون اللامركزية علاجاً لوجع السوريين ما لم تسبقها عملية تأسيس ديموقراطي في إنتاج السلطة، عندئذ يمكن للسوريين اختيار شكل الدولة بما يعكس إرادتهم الفعلية. لو طبقنا، على سبيل الفرض، فكرة اللامركزية في سورية (كما جرى في العراق من قبل)، لا شيء يضمن أن تكون السلطات المسيطرة في الأقاليم ديموقراطية، إلا إذا قبلنا أن السلطة في إقليم كردستان العراق هي كذلك.لضمان أولوية الديموقراطية على اللامركزية (وهي بنظرنا أولى وأكثر أهمية كما أشرنا) ينبغي أولاً المرور بمرحلة انتقالية تضمن بيئة مناسبة لممارسة ديموقراطية فعلية، وهذا يعني شل تأثير سلطات الأمر الواقع ومنعها من ممارسة نفوذها “غير الديموقراطي” على العملية الديموقراطية التي يناط بها إنتاج سلطة بديلة عن هذه السلطات. الإلحاح على المطالبة باللامركزية (نقصد دائماً السياسية) هو انسياق غير نقدي أو مسعى واع للتهرب من هذا التطلب الديموقراطي، وصاحب المصلحة الأول في هذا الإلحاح هي قوى الأمر الواقع المسيطرة في المناطق السورية.من ناحية أخرى، تبدو اللامركزية السياسية في سورية التي باتت اليوم بنسيج وطني ضعيف أكثر من أي وقت مضى، طريقاً إلى بلد مفكك ومشحون بعداءات عززها عقد من الصراع، جرى رفعها إلى مستوى الترسيم. تأسيس عملية ديموقراطية بمقدار مقبول من المصداقية والعمق هو العلاج الممكن لهذا التفكك الوطني الذي نشهده في سورية، أما تبدية اللامركزية أو جعلها مكافئاً تلقائياً للديموقراطية فلن ينتج عنها سوى استبدادات موزعة ومتعادية ضمن دولة مفككة.